03 November, 2007

ذُنُوبْ


لأنّها أربعِينيّةً كُنتَ تستَرِقُ النظَرَ إليها ، و تبحَثُ عن تِلكَ البائِسَةِ التي طَرَدْتَها من شَقّتِكَ التي ورثتها عن والِدِكْ ، مُنذُ أن سيّرتكَ زوجَتُكَ بجهازِ التَحَكُّمِ عن بُعْد " قلبُكَ الأخرَقِ " ، و بعضُ غنَجٍ كانت تستطيعُ تمثيلُهُ في أقصى حالاتِ مللها على الجميعِ .. بما فيهِمْ رجُلُ المُرُورْ .

شاهَدتُ عيناكَ تلحقانِ هذهِ السَيّدّةِ الأربعينيةِ التي تُشبِهُ والِدَتُكَ حقًا. تملِكُ عيناها اللامِعتَانِ و لِسانها الذي لا يخلو من التَرَضّي عليكَ لا أدري على ماذا ، و علامَةٌ صغيرَةٌ في خَدّها الأيسَرِ كأنّها أثرُ سقطَةٍ طويلَةُ الأثَرْ .. إلا أنّ الفارِقَ بينَهُما أنَ وجهَ هذهِ السَيّدَةِ كانَ مُورِدًا حِينَ قبّلَ شابٌ _ على الأرجَحِ أنّهُ ابنها _ يَدَها لتترضى هيَ عليهْ ، ثُمّ حَمَلهَا بِشَغَفٍ من كُرسِيِ الحافِلَةِ إلى كُرسِيها المُدَولَبِ على عجلتيْنِ كبيرتينِ لِيَدفَعَهُ لبابِ المَشفى ، تخَيّل أنّهُ ذاتُ المشفى الذِي أوصَلَتْكَ أُمّكَ إليهِ حِينَ دَفعَتكَ زوجُكَ ذاتَ شجارٍ عن حافّةِ السُلّمِ لتَسقُطَ مكسُورَ الكاحِلِ و قد لُوّنَ وجهُكَ أثرُ السقطَةِ باللونِ الأحمَر و البُنيّ الذي سالَ من أنفُكَ مُمتزِجًا ببعْضِ الرملْ.!

ها أنتَ اللحظةُ تلحقها فضُولاً لا أكثَر و قد صُيّرتَ إلى وضعِ أُمّكَ المفقودَة .. " مطرودًا ".و قدْ ذُعِرتَ حِينَ شاهَدتَها على الكُرسِيّ المُدَولَب .. لأنّكَ تعتَقِد الآن أنها طالمَا تَحمِلُ ملامِحَ والِدَتُكْ فلاَ ينبَغِي أن تُصابَ بأذىً أو بمَرَضٍ يُقعِدُها عن أبسَطِ حقُوقها.. الحَرَكَة .

كُنتَ تقطُنُ بِجِوارِنا و كانتْ والِدَتُكَ صديقَةً لأمي ، أحببتُها كأمّي التي ولَدَتْنِي ، لم تكُن تمَلّ من وصفِ طبيعَتَكَ الأولى.. طيبَةُ قلبِكْ إلى أن قُلِبَتْ حُمقًا و سَفَهْ و توقّفتَ أنتَ عن طِيبَةِ قلبِكْ وَ تَوَقّفَتْ هِيَ عنِ الحَديثِ عنْكْ .

الآن.. لا تنفَعُ الـ " كانتْ " لأنها انتهَت من حياتِكَ كما انتهَت والِدَتُكَ منكَ للأبَدْ.. يكفِي أن أصبَح مسكَنُكَ مدخَلَ هذهِ المشفَى الذي لازمتَهُ لأكثَرِ من سبعَةِ أشهُرٍ على قِصَصٍ تروِيها للمارّةِ و لِنفسُكَ لكَ معَ والِدَتُكْ ، حِينَ كُنتُما على خَيرِ ما يُرامْ ..
كُنتَ تقُولُ دائِمًا بينَ القِصّةِ و الأُخرَى : أَ تذكُرِينَ أمّي حِينَ أُسقِطْتُ عَنِ السُلّمِ و جِئنَا هُنا .! ها أنا سَقَطتُ و أحضرَتنِي امرَأةٌ تُشبِهُكِ حِينَ لَحِقتُها هُنا .. تعَالِي ما زِلتُ أنزِفْ . ثمّ تُجهِشُ في بُكاءٍ عميقٍ حتى تَغُطّ في النَومْ .

..
كانت شُرفتِي في الطابِقِ الثانِي حيثُ يُسمَعُ حديثُ المارّةِ و بُكاءَ "رِياضْ " ليلاً. كُنتُ أتأمّلَهُ كُلّ صباحٍ و هُوَ يغفُو منَ التّعَبِ ثمّ يستيقِظُ على خُطى الراكِضُونَ على نفسِ المَدخَلِ ليُعِيدَ الرِواياتِ التي يذكُرهَا و يُؤلّفُ البَعضَ الآخرَ حِينَ يحلُمَ لينتهِي بِصُراخٍ : ماذا دهانِي ؟ لِيَرُدّ على سُؤالِهِ مُشَرّدٌ آخَرْ : كُنتَ تَحِنُّ إلى أُمّكْ .!

مازِلتُ أعتَصِرُ ألمًا حِينَ أقِفُ على الشُّرفَةِ و أنظُرُ إليْهِ بشفقَة و لأُمِهِ التي كانتْ مُلقاةً على السريرِ في نفسِ الغُرفَةِ فاقِدَةٌ سمعَهَا و بصَرَها و وعيَها حِينَ صَدَمتها حافِلَةٌ في مسَاءِ ذاكَ اليَومِ الذي خَرَجتْ فِيهِ باكِيَةً منَ المَنزِلْ .. لِتُصبَحَ كذلكْ ..
ــــــــــــــ

No comments: